للهِ درُّ القائــِل : وإذا القومُ أُصِيبوا في أخْلاقــهمُ*** فأَقِمْ علَيهم مأْتَمَاً وعويــلا
إننا نعيش حالة من السعادة والطمأنينة وراحة البال في مواسم الخير ونفحات الرحمن وعند ما نقدم أي عمل من أعمال الخير وخاصة عند الجهاد في سبيل الله بالقتال أو بالكلمة أو اللسان أو بمحاربة الفساد والمفسدين بشتى الأعمال.... فتجد صفاء الروح وطمأنينة النفس وقرة العين وبعد انقضاء الأيام الطيبة هذه تتغير الحال فقلق واضطراب وفتور أو علي الأقل لا نشعر بما كنا نشعر به في أيام التضحية والفداء والدفاع عن الإسلام وعن دين الله ونشر الخير في المجتمع ، ولاسيما إذا لم يحقق العمل والجهاد والتضحية الثمرة المرجوة فإذا لم نحقق نجاحا ظاهرا ولم نجن ثمرة يانعة فيحزن القلب وتدمع العين ويخيم الصمت و ينتابنا شعور مضاد قد يؤدي بالبعض إلي ضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط فما السبب في هذه الحال التي نكون عليها في هذه الأيام وما السبب في تغيرها وانتهاء ثمرتها وكيف الوصول إلي شعور للراحة والسعادة دائما ؟ وكيف الوصول إلي علاج ودواء ناجع لهذه الحالة ؟
فإلي اليائسين من أبناء الوطن إلي المحبطين إلي الحق المستكين إلي الباحثين عن الحق والسعادة ورضا ربهم وإلي الباطل المنتفش إليهم جميعا هذه الكلمات
يقول الشاعر الباحث عن رضا ربه حتى لو خسر كل شيء الدنيا وما عليها وحتى لو ذاق الأمرين:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاة ُ مَرِيرَة ٌ ... ... ... ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... ... ... ... و بيني وبينَ العالمينَ خرابُ
إذا صَحَّ مِنكَ الوُدّ فالكلُ هَيّنٌ ... ... ... ... وَكُلُّ الذي فَوْقَ التّرَابِ تُرَابُ
السر إذا في سعادتنا وارتقاء أرواحنا وصعودها إلي العلياء هو شعورنا أننا في طاعة الله وأن الله راض عنا وأننا علي الحق وعلي درب الخير نسير في هذه الأيام الطيبة من الانهماك في الدعوة والانصهار مع الحق ومع الناس في توضيح الحق لهم والأخذ بأيديهم إلي الفكر الصحيح والفهم المستنير من خلال المؤتمرات والاجتماعات بالناس وسماعهم منا وبعدها يضيع هذا الشعور منا لأننا لم نعد نشعر بأننا في استراحة جند محارب ولأننا نسينا أن الأيام دول {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (140) سورة آل عمران
هذه الآيات قيلت للمؤمنين بعد غزوة أحد لتربط علي قلوبهم ليصبروا ويصابرون علي طريق الحق والدعوة وليعلموا أنهم ما داموا مؤمنين لربهم طائعين فهم بخير حال
أيها المناضلون لا تنسوا أن للكون إلها يدبر أمره ويختار ما يصلح بحكمته {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (68-70) سورة القصص
فهو الذي يخلق كل شيء ، ويعلم كل شيء ، وإليه مرد الأمر كله في الأولى والآخرة ،وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم في الدنيا وله الرجعة والمآب ، وما يملكون أن يختاروا لأنفسهم ولا لغيرهم ، فالله يخلق ما يشاء ويختار ، فهم لا يملكون الاختيار لأنفسهم فيختاروا الأمن أو المخافة! ، إنها الحقيقة التي كثيراً ما ينساها الناس ، أو ينسون بعض جوانبها ، إن الله يخلق ما يشاء؛ لا يملك أحد أن يقترح عليه شيئاً ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئاً ، ولا أن يعدل أو يبدل في خلقه شيئاً . وإنه هو الذي يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال والتكاليف والمقامات؛ ولا يملك أحد أن يقترح عليه شخصاً ولا حادثاً ولا حركة ولا قولاً ولا فعلاً { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم ، ومرد الأمر كله إلى الله في الصغير والكبير .
هذه الحقيقة لو استقرت في الأخلاد والضمائر لما سخط الناس شيئاً يحل بهم ، ولا استخفهم شيء ينالونه بأيديهم ، ولا أحزنهم شيء يفوتهم أو يفلت منهم . فليسوا هم الذين يختارون ، إنما الله هو الذي يختار .وليس معنى هذا أن يلغوا عقولهم وإرادتهم ونشاطهم . ولكن معناه أن يتقبلوا ما يقع بعد أن يبذلوا ما في وسعهم من التفكير والتدبير أن يتقبلوا الاختيار بالرضا والتسليم والقبول . فإن عليهم ما في وسعهم والأمر كله بعد ذلك لله .{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } فهو مجازيهم بما يعلم من أمرهم ، مختار لهم ما هم له أهل ، من هدى أو ضلال .{ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا } فلا شريك له في خلق ولا اختيار .{ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ } على اختياره ، وعلى نعمائه ، وعلى حكمته وتدبيره ، وعلى عدله ورحمته ، وهو وحده المختص بالحمد والثناء .{ وَلَهُ الْحُكْمُ } يقضي في عباده بقضائه ، لا راد له ولا مبدل لحكمه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيقضي بينكم قضاءه الأخير .في ظلال القرآن بتصرف كبير.
ولنا في رسولنا القدوة والأسوة ، حينما ذهب إلي الطائف يلتمس الزرع في أرض ظنها خصبة ، فما وجدها إلا سبخا من الأرض ، فبعدما أغروا به السفهاء والصبيان وأدموا قدمه الشريف وأسالوا الدمع من عينيه الشريفتين ، فاجتمع عرق طاهر ودموع نقية ودم شريف ، رفع يديه إلي السماء ، ليري هل هناك رضا من الله هل هو علي طريق الحق سائر أم أنه أخطأ في شيء ؟ وأرجع الأمر إن كان هناك عدم انتشار للدعوة إليه ظن أنه هو المقصر وأن به خللا،وتجيبه السماء برحلة التكريم والاحتفاء رحلة الإسراء والمعراج حتى يطمئن قلبه أنه قد أدى الأمانة بل علي أكمل وجه صلي الله عليه وسلم ، واقرأ معي هذه الكلمات وأنت تضع نفسك مكان النبي صلي الله عليه وسلم طَرْدٌ ومحاربة وتعذيب ، تعذيب بدني والأعظم منه التعذيب الروحي الذي يشعر به كل داعية عندما لا يجد لدعوته صدى ولا يجد لزرعه تربة خصبة ، ولا يجد لدينه جنديا ناصرا ومعينا ، فيطلب وقاية من الله كما يوقى الوليد.
{اللَّهُمَّ إلَيْكَ أشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوانِي على النَّاسِ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إلى مَنْ تَكِلْني إلى عَدُوَ يَتَجَهَّمُنِي أمْ إلى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أمْرِي إِنْ لَمْ تَكُنْ ساخِطاً عَلَيَّ فلا أُبالِي غَيْرَ أنَّ عافِيَتَكَ أوْسَعُ لِي أعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ الَّذِي أضاءَتْ لَهُ السَّمواتُ والأرْضُ وأشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُماتُ وصَلَحَ عليهِ أمْرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ أنْ تُحِلَّ عَليَّ غَضَبَكَ أوْ تُنْزِلَ عَلَيَّ سَخَطَكَ وَلَكَ العُتْبى حَتَّى تَرْضى ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ{ حسنه الإمام السيوطي في الجامع الصغير من حديث البشير النذير ورواه: الطبراني في الكبير، وابن جرير في التاريخ ، وابن سعد في الطبقات ؛ كان ابن عطاء يقول في مناجاته: ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك..لقد خاب من رضي بدونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً.
أيها الظالمون أيها البغاة المفسدون ربما تكسبون جولة هي فوز ومتعة في ظنكم ولكنها متعة الحياة الدنيا الزائلة ، وربما أهل الحق يخسرون جولة مع أهل الزيغ والضلال ولكن إياكم أن تغتروا بمتعهم الزائلة وزينتهم المزيفة {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (196- 197) سورة آل عمران وأنتم في الحقيقة من فاز فاز برضا الله والله حسبكم والله يكفيكم .
يقول ابن كثير في تفسيره : يقول تعالى: لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مُتْرفون فيه، من النِّعْمَة والغِبْطَة والسرور، فعَمّا قليل يزول هذا كله عنهم، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نَمُدّ لهم فيما هم فيه استدراجا وجميع ما هم فيه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } وهذه الآية كقوله تعالى: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان:24] ، { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } [غافر:4] ، وقال تعالى: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق:17] ، وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر مآلهم إلى النار قال بعده:{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نزلا } أي: ضيافة من عند الله { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } فهم كسبوا منصبا وسلطانا وزعامة وربما وجاهة بين الناس وكلنها مزيفة ممقوتة في أصلها ، حتى عند من ينبهرون بها ويحتفلون من أجلها .
أيها الأبرار الأطهار ، يا من سهرتم الليالي وأجهدتم أنفسكم في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل ، لا تحزنوا فكل شيء مسطر وكل أمر مدبر بحكمة بالغة ، واسمع معي بأذني قلبك قول ربك {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (22) (23) سورة الحديد
فإياك أن تحزن ، فكل ذلك بتدبير الله ، واعلم أن للكون ربا يدبر أموره ، هو المالك لكل شيء المتصرف في كونه وأنت عبد من عباده في كونه ولو شاء أن يحقق النجاح علي يديك لفعل ولكنه يؤجل لأجل أجله ولوقت وقته {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (26) سورة آل عمران
يقول الشهيد سيد قطب في ظلاله : ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله ، التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة ، حتى لا يكون فتنة لأصحابه ، ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين ، الذي يعانون ما يعانون ، من أذى وإخراج من الديار ، وقتل وقتال ،ومعادة لأهليهم وعشائرهم ، وتقلب الذين كفروا في البلاد ، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان ، ومن مظاهر المكانة والسلطان ، وهو مظهر يَحِيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ؛ وهم يعانون الشظف والحرمان ، ويعانون الأذى والجهد ، ويعانون المطاردة أو الجهاد . وكلها مشقات وأهوال ، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة ، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء ، والباطل وأهله في مَنْجَاة ، بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضلالاً وبطراً ولجاجاً في الشر والفساد هنا تأتي هذه اللمسة : {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (196- 197) سورة آل عمران متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد ، فهو جهنم . . وبئس المهاد!
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله :{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} (198) سورة آل عمران وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كِفَّة ، وهذا النصيب في كِفَّة ، أن ما عند الله خير للأبرار ، وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان ، وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب! إن الله سبحانه في موضع التربية ، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر ، ولا يعدهم بقهر الأعداء ، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض ، ولا يعدهم شيئاً من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى ، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئاً واحداً هو {مَا عِندَ اللّهِ } . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة ، وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة : التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ، ومن كل مطمع حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله ، وقهر أعداء الله ، حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون ، ويكلوا أمرها إليه ، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها!
هذه العقيدة : عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض ، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء ، ثم انتظار كل شيء هناك!
ثم يقع النصر ، ويقع التمكين ، ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلاً في البيعة . ليس جزءاً من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة؛ وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء؛ ولم يسلِّمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية ، إلا حين تجردوا هذا التجرد ، ووفوا هذا الوفاء :
عَنْ جَابِرٍ قَالَ { ... فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلاَمَا نُبَايِعُكَ قَالَ « تُبَايِعُونِى عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ والنَّفَقَةِ فِى الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ تَقُولُوا فِى اللَّهِ لاَ تَخَافُونَ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِى فَتَمْنَعُونِى إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ » . قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ فَقَالَ رُوَيْداً يَا أَهْلَ يَثْرِبَ فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الإِبِلِ إِلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِيَنةً فَبَيِّنُوا ذَلِكَ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ . قَالُوا أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ فَوَاللَّهِ لاَ نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَداً وَلاَ نَسْلُبُهَا أَبَداً . قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ عَلَيْنَا وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ } رواه أحمد وصححه الألباني والحاكم وقال إسناده جيد ووافقه الذهبي.
هكذا « الجنة » والجنة فقط لم يقل : النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء مما منحهم الله وأجراه على أيديهم فذلك كله خارج عن الصفقة!
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين؛ أنهي أمرها ، وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها!
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض،وزمام القيادة وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ، وكل رغباتها ، وكل شهواتها ، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها ، والمنهج الذي تحققه ، والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
ثم يجيء الإيقاع الأخير ، في نداء الله للذين آمنوا ، وتلخيص أعباء المنهج ، وشرط الطريق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(200) سورة آل عمران.
إنه النداء العلوي للذين آمنوا ، نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء ، والتي تلقي عليهم هذه الأعباء ، والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء ، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } . النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة والتقوى وكذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة ، إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء ،الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع .
والصبر على هذا كله وعلى مثله مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل لا تصوره حقيقة الكلمات ، فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة ، إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات! والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء ، كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق! {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} (6) سورة ص الكفرة والفسقة وأهل الضلال يصبِّرون أنفسهم فما أجدرنا بهذا منهم والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس . في ظلال القرآن بتصريف كبير
لا فلاح للمفترين:
يقول المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (65) سورة يونس لا يحزنك قولُ هؤلاء المشركين، واستعن بالله عليهم، وتوكل عليه؛ فإن العزة لله جميعا، أي:جميعها له ولرسوله وللمؤمنين{ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي: السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم.
ويقول الله عز وجل {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (69) سورة يونس
لا يفلحون أي فلاح . لا يفلحون في شِعب ولا طريق . لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى . والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن الله الصحيحة ، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع ، وتنمية الحياة ، ودفعها إلى الإمام . وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية ، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية . فذلك فلاح ظاهري موقوت ، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال .
يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا ، وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم،{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} (70) سورة يونس مجرد متاع واط . وهو متاع قصير الأمد . وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة، إنما يعقبه{ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } ثمرة للانحراف عن سنن الله الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان .
ومثله من الآيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (77) سورة النساء
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (117) سورة النحل
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (111) سورة الأنبياء
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ* أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ }(60-61) سورة القصص
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (39) سورة غافر
إنها النظرة السطحية القريبة ، والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك . ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار!
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (61) سورة القصص فهذه صفحة من وعده الله وعداً حسناً فوجده في الآخرة حقاً وهو لا بد لاقيه . وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد ، ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضاراً للحساب . والتعبير يوحي بالإكراه { مِنَ الْمُحْضَرِينَ } الذين يُجَاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين ، لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد! مع هذا أيكون من هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل، { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } قال مجاهد، وقتادة: من المعذبين. في يوم عصيب شديد علي كل ظالم يوم ينادى عليهم ليحاسبوا علي ظلمهم وبغيهم
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (62) سورة القصص ؟ إنه نداء التوبيخ والتقريع والخزي والفضيحة على رؤوس الأشهاد .
أين ما عبدتم من دون الله ؟ أين ما لهثتم وراءه وتركتم الحق من أجله ؟ أين مناصبكم ؟ أين الكراسي ؟ التي أقمتم من أجلها الحروب وأرقتم لها الدماء ومنعتم في سبيلها الحريات وانتهكتم الحرمات وفزّعتم الآمنين وروعتم الشعوب وقتلتم كل معنى جميل عند الناس وزرعتم في قلوبهم الخوف واليأس والقنوط ، أين هم ليخلصوكم مما أنتم فيه، كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا، إنها الحياة الدنيا متاع الغرور هي التي أوصلتكم إلي كل هذا فذوقوا وبال ما كنتم تقترفون وتجرعوا جزاء ما كنتم تكسبون ولن ينفعكم اليوم ما تقدمون من براهين إنكم كنتم في الدنيا تضللون الناس بوسائلكم الشيطانية وتزعمون أنكم علي حق وأنكم مناضلون من أجل الوطن والمواطنين فما تقولون أمام الملك الجبار الذي يعلم السر وأخفى ، والله يعلم أن لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء ، وأن أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئاً ، ولا يستطيعون إليهم سبيلاً . ومن ثم لا يجيب المسؤولون عن السؤال ، فليس المقصود به هو الجواب! إنما يحاولون أن يتبرأوا من جريرة إغوائهم لمن وراءهم ، وصدهم عن هدى الله ، كما كان يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم ، فيقولون :
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} (63) سورة القصص
{ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } يعني: من الشياطين والمَرَدَة والدعاة إلى الكفر،والظالمين المعتدين دعاة الفساد وهدمة المبادئ ومَاحِقِي الخير عند الناس{ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } ، ربنا إننا لم نغوهم قسراً ، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم؛ إنما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واخيتار ، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار .
فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرؤوا من عبادتهم وطاعتهم ، هم جنودهم في طغيانهم ومع ذلك تبرؤوا منهم وطلبوا لهم العذاب. عندئذ يعود بهم إلى المخزاة التي حولوا الحديث عنها . مخزاة الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله : {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ...} (64) سورة القصص
ادعوهم ولا تهربوا من سيرتهم! ادعوهم ليلبوكم وينقذوكم! ادعوهم فهذا يومهم وهذه فائدتهم! والبائسون يعرفون أن لا جدوى من دعائهم ، ولكنهم يطيعون الأمر مقهورين : } فَدَعَوْهُمْ { تخيل معي وهم ينادون علي كل ما عبدوا وأطاعوا من دون الله فمنهم من ينادي علي الشهوات ومنهم المنادي علي المنصب والمال والنساء والأصنام وكل شريعة غير ما شرع الله لعباده ، وعبر بالفعل الماضي لأنه محقق وأنهم بالفعل سينادونهم {... فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ } (64) سورة القصص. ولم يكن منتظراً غير ذاك ، ولكنه الإذلال والإعنات! { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} رأوه في هذا الحوار . ورأوه ماثلاً وراءه . فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب .
وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه ، وهو أمنية المتمني في ذلك الموقف المكروب : وهو بين أيديهم في الدنيا لو أنهم إليه يسارعون فودوا وتمنوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا لو كانوا من أهل الحق والخير لا من أهل الضلال والإضلال والنفاق والفساد والإفساد.
ويجيء النداء الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (65) سورة القصص: النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوات: ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم ؟ وكيف كان حالكم معهم ؟ كيف حالك مع السنة ومنهج الرسول صلي الله عليه وسلم ؟ هل كنت حريصا علي سنة النبي صلي الله عليه وسلم كما كنت حريصا علي منصبك وشهوتك ودنياك التي من أجلها حاربت ؟ أين النبي صلي الله عليه وسلم في قلبك؟ كم يشغل من القلب ؟ : وإن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين . ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل ، وهذا كما يُسأل العبد في قبره: مَنْ ربك ؟ ومَنْ نبيك ؟ وما دينك ؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله. وأما الكافر فيقول: هاه .. هاه. لا أدري؛ ولهذا لا جواب لهم يوم القيامة غير السكوت؛ وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت . ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول لأن مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ولهذا قال تعالى.: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} (66) سورة القصص
وقال مجاهد: فعميت عليهم الحجج، فهم لا يتساءلون بالأنساب.
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة . وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم ، وهم لا يعلمون شيئاً عن أي شيء! ولا يملكون سؤالاً ولا جواباً . وهم في ذهولهم صامتون ساكتون! فكم تكلموا في الدنيا وكم حاورا وكم راوغوا أهل الحق وكم افتروا من الغي والضلال ليضلوا الناس وهم يعلمون أنهم كذابون وأنهم مضلون اليوم هم صامتون لا يتكلمون أين جرأتكم علي الحق أين افتراءكم كنتم تمثلون في الدنيا الدفاع عن الباطل والغي والنفاق والضلال من يدافع عنكم اليوم ؟ من وكيلكم وأين هيئة دفاعكم ؟
{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } النساء(108-109)
يا شباب الإصلاح يا ملح البلد *** من يصلح الملح إذا الملح فسد
إلي من قومهم وأهلوهم وعشيرتهم وقفوا ضدهم ونصبوا لهم العداء لأنهم ظنوا أنهم يحاربونهم في أشخاصهم وأنهم يعاندونهم ،ولم يعلموا أنكم تحملون المشعل لتضيئوا لهم الطريق وتسلكوا بهم طريق النجاة ولا يدركون أنكم تقولون لهم اركبوا معنا سفينة النجاة السفينة التي ركبها من قبل نوح عليه السلام فنجي من نجي وغرق من غرق هم لا يفهمون ولا يبصرون الحقيقة رزقهم الله الفهم الصحيح أيها السباب لكم في الخليل إبراهيم عليه السلام القدوة والأسوة فقد كان العدو الأول له هو أبوه فألقوه في النار نكاية به لأنه سفه آلهتهم ويعدل عليهم ما يعتقدون فيه وفي يومنا هذا ترى الواحد منهم تأخذه العزة بالإثم كيف أن ابنه أو ربما ابن ابنه أو شابا صغيرا هو من يدله ويظهر أمام الناس أنه هو الأولي بالاتباع وأن صغيرا عدل علي كبير (ويقولون أي دين الذي يجعل الابن يعدل علي أبيه وقومه ؟ ويقولون عدلوا علي أنفسكم أولا نحن نعلم من الدين أكثر وأفضل مما تعلمون أنتم ستفسدون علينا ديننا ودنيانا) مساكين هم !!! حالهم حال أبي إبراهيم حتى بعد أن نجاه الله من النار وبهرهم الله بنجاته لنبيه فليتهم آمنوا بل عاندوا وقالوا كما ذكر الطبري في تفسيره جامع البيان في تأويل القرآن قال حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الحارث، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار، وجده يرشح جبينه، فقال عند ذلك: نعم الربّ ربك يا إبراهيم. وذكر جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور في التأويل بالمأثور وغيرهما من المفسرين ، فهل آمن بنعم الرب الذي رأى قدرته بعينه ولمسها بحواسه ؟ ليته فعل !!
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (23) سورة الزخرف {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف العادات والتقاليد والموروثات والسلبية والجاهلية أحيانا وربما العناد والمكابرة أيها المناضلون يكفيكم حب الله ورضاه عنكم وعن طريقكم .
كَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ إِلَى عَائِشَةَ أَنِ اكْتُبِى إِلَىَّ بِشَىْءٍ سَمِعْتِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « إِنَّهُ مَنْ يَعْمَلُ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ يَعُودُ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا » . الحميدي وصححه الألباني.
كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنِ اكْتُبِى إِلَىَّ كِتَاباً تُوصِينِى فِيهِ وَلاَ تُكْثِرِى عَلَىَّ . فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ » . وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ . الترمذي وصححه الألباني .
وفي رواية ( من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله الناس ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس ) صحيح صححه الألباني
ويكفيهم سخط الله وأنهم في الغي تائهون وتأخذون بأيدهم شفقة عليهم وهم يأبون الهداية والنجاة
عَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ قَالَ جَلَسْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَجَلَسَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ وَمَنْ خَاصَمَ فِى بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِى سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ وَمَنْ قَالَ فِى مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ » . أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَنْ تَرَى قَوْماً فِى أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَغْدُونَ فِى غَضَبِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ فِى سَخَطِ اللَّهِ » . مسلم
أنت عبد الله
والكثير من الناس يتذرع بحجة أنه عبد المأمور وأنه ضعيف ومغلوب علي أمره ويمنع أولاده وذويه من النضال والتصدي للباطل ، والفاجر منهم يدعي أن الإسلام ليس له نصيب في حياتنا إنما هو في المسجد علاقة بين العبد وربه وأننا لو أنزلنا القرآن ليحكم حياتنا لن تستقر الأمور وسنعادي به الدنيا كلها ولنا مصالح هنا وهناك ولهؤلاء نقول : إنكم تقولون كما قالت قريش من قبل ونسيتم أنكم عباد الله {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا..... } (57) سورة القصص وأجيب بما أجاب الله عليهم {....أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (57) سورة القصص
يقول الشهيد سيد قطب : فهم لا ينكرون أنه الهدى ، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس . وهم ينسون الله ، وينسون أنه وحده الحافظ ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله . ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم ، ولو خالطهم لتبدلت نظرتهم للقوى ، ولاختلف تقديرهم للأمور ، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله ، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه . وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } (10) سورة فاطر وأن هذا ليس وهماً وليس قولاً يقال لطمأنة القلوب . إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه ، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة . فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له . والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة ، ويأوي إلى ركن شديد ، في واقع الحياة .
إن هدى الله منهج حياة صحيحة . حياة واقعة في هذه الأرض . وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية . وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة . إنما هو يربطهما معاً برباط واحد : صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض . ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة . فالدنيا مزرعة الآخرة ، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها . بشرط اتباع هدى الله . والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه .
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة . أمانة الخلافة في الأرض تصريف الحياة .
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه . يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم ، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا..... } (57) سورة القصص. فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان .
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم .
فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعاً؟ تتجمع في الحرم من كل أرض ، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة :{....أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (57) سورة القصص فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله ، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة ، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } (57) سورة القصص
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة . ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله .
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقاً ، وأن يأمنوا التخطف حقاً ، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها :
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (58) سورة القصص
إن بطر النعمة ، وعدم الشكر عليها ،وإبعاد شرع الله وإقصاؤه عن الحياة لأشد مقتا ، وإقصاء أهل الحق وتقريب أهل الباطل، وإيذاء المطالبين بالحق ومكافأة المزورين والساكتين عن البطش والظلم بالمال وأعلى المناصب هو سبب هلاك القرى .أيتها الشعوب المخمومة في أهل الباطل إنهم ونحن ,وأنتم معهم جميعا يأخذون بنا إلي الهاوية إلي التهلكة فلندرك أبعاد هذه القضية وأهل مكة وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن؛ فليحذروا إذن أن يبطروا ، وألا يشكروا ، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها ، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية . { لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا } وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها وتروي قصة البطر بالنعمة؛ وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحداً ، ولم يرثها بعدهم أحد { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولاً . فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (59) سورة القصص:والقرآن إذ ينذركم بالتيه والزيغ والضلال لمن ينبذون القرآن وراءهم ويتخذون غيره منهجا ودستورا
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (60) سورة القصص خير في طبيعته وأبقى في مدته . { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم :{ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا }
فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين ، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون . ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن . وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار .
أين قارون وملك قارون ومال قارون وخدمه وجنده وحشمه
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } سورة القصص
انظر لعظيم ملكه وكثرة ماله وما أغنت عنه من قدر الله شيئا.
تجيء هذه القصة قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم ، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر ، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق . وتقرر حقيقة القيم ، فترخص من قيمة المال والزينة والسلطان والدنيا بما حوت وما عليه اشتملت إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح والإصلاح وحمل الخير للناس والتواضع وخفض الجانب وإرجاع الفضل إلي الله صاحب الفضل والمنة ؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد . وقصة قارون تقرر أن مسلكه مع قومه ، وهو مسلك البغي وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهولاً يشمل شتى الصور . فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال أو سرقة أقواتهم ونهب ثرواتهم وترك الفتات لهم.
{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} إنما أوتيت هذا المال استحقاقاً على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله . إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء .وربما وجد التفاف المستنفعين بماله من الخَدَمة والجند والرعاع والمرتزقة فظن أن الله حباه هذه النعمة عن استحقاق ولولا إخلاصه وصدقه ما كان صاحب هذا الفوز العظيم فكذب وظل يكذب حتى صدق نفسه ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم . وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم . ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، رداً على قولته الفاجرة المغرورة { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) }أين من سبقوه أين قوم عاد وثمود الذين امتلكوا من القوة ما امتلكوا فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك الله من قبله أجيالاً كانت أشد منه قوة وأكثر مالاً . وكان عليه أن يعلم هذا . فهذا هو العلم المنجي فليعلم وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد!
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} هنا يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ها هم الخدم والحشم والحراس والمراكب الفارة والنساء الجميلات وكل لون من ألوان الزينة والبهجة والترف والنعيم وكأنه يستعرض قوته ويظهر عن عضلاته ليغيظ بها قوما ظن أنهم له حاسدين ولمكانه متمنين ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسبون أنه أوتي حظاً عظيماً يتشهاه المحرومون .
ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون بالإيمان الذي ملأ قلوبهم وعرفوا به الأشياء علي حقيقتها ورأوا من خلاله الأمور من كوامنها فاعتزوا بإيمانهم على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكِّرون إخوانهم المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين ، وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان لنرى من يرجح كفة الإيمان والخير والمبادئ أم كفة المال والدنيا والزخارف { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدينا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ؟ من مال أو منصب أو جاه أو كرسي . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة ، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفساً ، وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} . ويلكم لو تهافتكم علي الدنيا والزينة واستعجلتم ثمارا قبل أوانها فدعوا القدر هو الذي يخطط لكم ويرسم لكم دروبكم وتيقنوا أن ثواب الله خير من هذه الزينة ، وما عند الله خير مما عند قارون وخير مما أوتي كل صاحب زينة مزيفة ونعمة في ظاهرها النعمة وفي باطنها العذاب الأليم والخسران المبين . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون . وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض ، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حداً للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطماً . ويجيء المشهد الثالث حاسماً فاصلاً :
هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } فابتلعته وابتلعت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقاً .
{ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه ولاحشمه. ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله ، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه، فلا ناصر له لا من نفسه، ولا من غيره.
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } ها هم فهموا ولكن بعد وقت طويل ، وها هو الندم قد أصابهم علي ما كانوا يتمنون وعلموا أن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة. أي: لولا لُطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف به، لأنا وَددْنا أن نكون مثله.
{لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } يا لله أصبح الفقر منة وأصبحت زينة الحياة الدنيا نقمة ، فليتنا نعلم أن تقدير الله دائما هو الحكمة البالغة {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (55) سورة القمر إنه الله المقتدر الذي يتصرف في الأمور علي اقتدار علي قدرة وحكمة في تصريف القدرة .
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض، أي: ترفعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبرًا بهم، ولا فسادًا فيهم. والفصل بينكم في الآخرة {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة . يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريباً من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، والذي يعز عليه فراقه ، لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه ، ومهد ذكرياته ، ومقر أهله . يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقفه ذاك :{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (85) سورة القصص
فما هو بتاركك للمشركين ، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة . ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك ، ويستبدون بك وبدعوتك ، ويفتنون المؤمنين من حولك . إنما فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره ، وفي الوقت الذي فرضه؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد ، ولكنك غداً منصور إليه عائد .
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ، ليمضي صلى الله عليه وسلم في طريقه آمناً واثقاً ، مطمئناً إلى وعد الله الذي يعلم صدقه ، ولا يستريب لحظة فيه .أيها السالكون طريق الإصلاح ونشر الخير والفضيلة اعلموا علم اليقين ولترى قلوبكم عين اليقين أن وعد الله قائم لكل السالكين في الطريق؛ وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله ، فيصبر ويستيقن إلا نَصَره الله في وجه الطغيان في النهاية ، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه ، ويخلي عاتقه ، ويؤدي واجبه .
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} .إن الذي فرض عليك النضال والجهاد والصبر والمصابرة في وجه الطغيان بلا كلل ولا ملل ولا يأس ولا قنوط ولا استعجلا لثمرة لرادك إلي النصر المحقق والفوز المبين في الدنيا وفي الآخرة، ولقد رد موسى عليه السلام من قبل إلى الأرض التي خرج منها هارباً مطارداً . رده فأنقذ به المستضعفين من قومه ، ودمر به فرعون وملأه ، وكانت العاقبة للمهتدين . . فامض إذن في طريقك ، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن .
فزت ورب الكعبة:
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَاماً مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ إِلَى بَنِى عَامِرٍ فِى سَبْعِينَ ، فَلَمَّا قَدِمُوا ، قَالَ لَهُمْ خَالِى أَتَقَدَّمُكُمْ ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيباً . فَتَقَدَّمَ ، فَأَمَّنُوهُ ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ . ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ ، إِلاَّ رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ . قَالَ هَمَّامٌ فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ ، فَرَضِىَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ ، فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا . ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لِحْيَانَ وَبَنِى عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم . البخاري واللفظ له ومسلم
عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ - وَكَانَ خَالَهُ - يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا ، فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ ، ثُمَّ قَالَ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ . البخاري واللفظ له ومسلم
الطعن في سبيل الله هو الفوز العظيم لا النصر في سبيل الشيطان فهو الخسران المبين أيها الأحباب إن إخوانكم لما رأوا من النعيم المقيم ولما رأوا من وعد الله الصادق يبلغونكم حتى تلحقوا بهم بتمسككم بطريقهم فاحيوا علي ما حيى عليه أصحاب رسولكم صلي الله عليه وسلم وموتوا يوم أن تموتوا علي طريقهم وعلي منهجهم الذي استقوه من ربهم و رسولهم صلي الله عليه وسلم
نسأل الله تبارك وتعالي الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن ونسألكم الدعاء
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (180-181) سورة الصافات
والصلاة والسلام علي
من بلغ العلى بكـمـالـه *** كشف الدجى بجماله
عظمت جميع خصالـه *** صلوا عليه وآلــه
الكاتب: الشيخ أبو أنس عبدالوهاب عمارة: إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف